وقد يقول قائل: وما دخل هذه الاتفاقيات وحكم المرتد؟ خاصة وأن هذه الاتفاقات ليس لها قوة ملزمة بالنسبة للدول؟ فمن غير المقبول أن يكون لسلطة الجمعية العامة للأمم المتحدة فرض قواعد ملزمة على دول الأعضاء؛ لذا فإن هذه الإعلانات تأخذ في حقيقة الأمر شكل التوصيات؛ أي أنها إعلانات نوايا مجردة تماماً من كل قيمة قانونية إلزامية [14].
والجواب: أولاً: أن هناك من رجال القانون العام العرب [15] من يرى أن للقواعد التي تتضمنها إعلانات الحقوق قيمة قانونية تعادل القيمة القانونية للنصوص الدستورية؛ ومن ثم فإن قوتها تعلو القوانين العادية وتكون واجبة الاحترام من السلطة التشريعية.
ثانياً: أن الدول الإسلامية وللأسف الشديد مع ضعفها سياسياً تحسب لهذه القضايا ألف حساب؛ حيث أنها تراعي الديمقراطية الغربية والنمط الغربي، وتخاف من الضغوط الغربية عليها؛ ولذلك نسمع ونشاهد أنه عندما يحكم على أحد المجرمين بالإعدام في البلدان الإسلامية فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وقد يباد شعب من المسلمين بأكمله ولا يتحرك هذا الضمير الغربي المدافع عن حقوق الإنسان؛ والواقع المعاصر أكبر شاهد على ما نقول!
ثالثاً: تختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية في أنها لا تعاقب على تغيير الدين بالذات ، ولكنها تأخذ بنظرية الشريعة وتطبقها على من يخرج على النظام الذي تقوم عليه الجماعة؛ فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية أو الفاشية، والدولة الفاشية تعاقب من يخرج على الفاشية وينادى بالشيوعية أو الديمقراطية، والدول الديمقراطية تحارب الشيوعية والفاشية وتعتبرها جريمة؛ فالخروج على المذهب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي في دائرة القانون يقابل الخروج على الدين الإسلامي الذي يقوم عليه نظام الجماعة في الشريعة الإسلامية.
والخلاف بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة خلاف في تطبيق المبدأ وليس خلافاً على ذات المبدأ؛ فالشريعة الإسلامية تجعل الإسلام أساس النظام الاجتماعي، فكان من الطبيعي أن تعاقب على الردة لتحمي النظام الاجتماعي.
والقوانين الوضعية لا تجعل الدين أساساً للنظام الاجتماعي، وإنما تجعل أساسه أحد المذاهب الاجتماعية.
فكان من الطبيعي أن لا تحرم تغيير الدين وأن تهتم بتحريم كل مذهب اجتماعي مخالف للمذهب الذي أسس عليه نظام الجماعة [16].
ومما سبق يتبين لنا: أن القوانين الوضعية أغفلت النص على عقوبة المرتد، ولم يكن هذا الموضوع ليشغل بال واضعي القانون؛ وذلك لأن رجال القانون يعتبرون حد الردة وحشية وهمجية ولا يتناسب مع القرن العشرين الذي نعيش فيه! وإن تعجب فعجبٌ أنّ رجال القانون قد وضعوا عقوبة شديدة جداً قد تصل إلى حد الإعدام لما يسمونه بالخيانة العظمى على ما سيأتي تفصيله وهي تتمثل في إفشاء أسرار الدولة الخارجية والداخلية، أو التعرض لشخص رئيس الدولة، ومن خلال النصوص التي ذكروها يتضح جلياً أن خيانة الدين والردة عنه مسألة فيها نظر؛ أما خيانة الوطن فهي مسألة ذات خطر؛ ولعلِّي عزيزي القارئ أبين لك بعض النصوص القانونية التي توضح ذلك.
تعريف الخيانة العظمى: يطلق رجال القانون اصطلاح الخيانة على عدد من الاعتداءات الخطيرة الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وهي جميعها جنائية الوصف، وتنم عن فصم روابط الولاء الذي يشعر به المواطن نحو وطنه وأمته ودولته، وعن استهدافه في خدمة الدولة الأجنبية وتعهده مصالحها على حساب مصلحة دولته التي ينتمي إليها [17].
إذن فيعتبر خيانة عظمى: كل جريمة تمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجي أو الداخلي أو نظام الحكم الجمهوري.
عقوبة الخيانة العظمى: يكون معاقباً عليها في القوانين بعقوبات الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت [18].
مع العلم أن مخالفة الأحكام الأساسية التي يقوم عليها الدستور لا تنطوي تحت مدلول (الخيانة العظمى) وإنما جعل المشرع الوضعي هذه المخالفة (مخالفة الخيانة العظمى) جريمة مستقلة وعاقب عليها بعقوبة خاصة [19].
وكما تلاحظ فإن المشرِّع الوضعي أورد نصاً خاصاً ومستقلاً لجريمة الخيانة العظمى لخطورة هذه المسألة في نظره [20] مع أنه لم يورد نصاً خاصاً أو عاماً عن أحكام الردة؛ لأن هذه مسألة تدخل في نطاق الحرية العقدية والدينية.
فإلى الله المشتكى من هوان الدين على أبنائه.
وأذكر من باب الفائدة أن بعض القوانين الوضعية تفرق بين الخيانة العظمى وخيانة الوطن.
أما الأولى: فتشمل أكثر الجرائم المخلة بأمن الدولة الداخلي كالجنايات الواقعة على الدستور وغيرها.
وأما الثانية: أي خيانة الوطن فتقع على أمن الدولة الخارجي، وهي إما أن تكون خيانة عسكرية وتتناول جميع أنواع الخدمات التي يقدمها الفاعل إلى العدو في خلال الحرب، كما تتناول شتى ألوان الدسائس التي يستعملها لدن دولة أجنبية لدفعها إلى مباشرة الاعتداء على الوطن أو لتوفير الوسائل اللازمة لذلك.
وإما أن تكون خيانة سياسية أو دبلوماسية وتتناول جميع الأفعال التي تؤول إلى إفشاء أسرار الدولة أو الإضرار بمركزها السياسي.
وقد تقع أفعال الخيانة السياسية زمن السلم وزمن الحرب على السواء.
ويُجمع شراح الأنظمة، في هذه الحال، على صعوبة التفريق بين أفعال هذه الخيانة وأفعال التجسس [21].
وفي نهاية المطاف وقبل أن أبين موقف الشريعة الإسلامية من هذا الموضوع الخطير أرد على شبهتين أساسيتين هما : أ- أن عقوبة المرتد تَدَخّل في حرية العقيدة ومُصَادَرَةٌ لها، وإكراه على تبديل الدين، وإجبار الإنسان على اعتناق ما لا يريده ولا يرغب فيه.
وهذه الشبهة مردودة؛ لأنها تنطلق من الجهل بطبيعة هذه العقوبة، والجهل بمعنى الردة، ومعنى الإكراه على اعتناق العقيدة.
وبيان ذلك: أن الردة كما هو معروف رجوع عن الإسلام، والمرتد هو الراجع عن الإسلام.
فنحن إذن إزاء مسلم ارتكب جريمة معينة هي الردة، ولسنا أمام يهودي أو نصراني نريد أن نكرهه على تبديل دينه وحمله على اعتناق الإسلام.
ومبدأ أن لا إكراه في الدين مبدأ مقرر في الشريعة الإسلامية بنص القرآن ولا يجوز المساس به، بدليل واضح بسيط أن الإسلام شَرَعَ الجزية وعقد الذمة؛ وهذا يعني إبقاء غير المسلم على دينه وتركه وما يدين به.
فلو كان الإكراه على تبديل الدين واعتناق الإسلام بالجبر والإكراه مشروعاً لما شَرَعَ الإسلام عقد الذمة.
ولكن قد يقال: فلماذا إذن نعاقب المرتد؟ ألا يعني هذا إكراهه على الاستمرار على دين الإسلام وقد أصبح لا يرضاه؟! والجواب: أن المسلم بإسلامه التزم أحكام الإسلام وعقيدته، والإخلال بالالتزام لا يجوز، ويعاقب المخل بالتزامه بالعقوبة المناسبة، فعقوبة المرتد إذن وجبت لإخلال المسلم بالتزامه.
وبالإضافة إلى هذا الإخلال فإن المرتد بردته يرتكب جملة جرائم أخرى، وهذه الجرائم نتيجة حتمية لردته، وبيان هذه المسألة: أن المرتد لا بد أن يعلن ردته بشكل من أشكال الإعلان؛ لأنه لو كتمها ولم يعلنها لما عرفنا به ولبقي من المنافقين، فإعلانه للردة جريمة أخرى؛ لأن فيها استخفافاً بعقيدة الأمة ونظامها الذي ارتكز على الإسلام، كما أن في ردته تشجيعاً للمنافقين لمتابعته في ردته وإظهار نفاقهم، وتشكيكاً لضعاف العقيدة بعقيدتهم، وهذا كله يؤدي إلى اضطراب في المجتمع واهتزاز في نظامه القائم على الإسلام واستخفاف به؛ وهذه أمور جسيمة يجب منعها عن المجتمع الإسلامي بمعاقبة المرتد.
وجعلت عقوبة المرتد القتل؛ لأن جريمته خطيرة؛ ولأن إخلاله بالتزامه إخلال خطير جداً، ويجب أن لا نستغرب ذلك؛ فرب إخلال بالالتزام يترتب عليه قتل المخل مثلما تقدم في عقوبة الخيانة العظمى بهذا، كما لو تعاقد شخص مع الدولة لتزويد الجيش بالأرزاق، فإذا تعمد هذا المتعاقد عدم التزويد بالأرزاق، والجيش في حاجة إليها، كما لو كان في حالة حرب، مع قدرة المتعاقد على الإيفاء بالتزامه؛ فإن عقوبته قد تصل إلى الإعدام [22].
وأخيراً: فإن الشريعة الإسلامية، مع خطورة جرم المرتد أوجبت إمهاله ثلاثة أيام فإذا رجع عن ردته سقط عنه العقاب، فهل بعد هذا الذي قلناه تبقى لأحد حجة للقول بأن في عقوبة المرتد تدخلاً في حرية العقيدة واكراهاً على تبديل واعتناق الإسلام؟!!
ب- أن في عقوبة المرتد مخالفة للنص الدستوري الذي ينص على أن: (حرية الاعتقاد مطلقة) [23]
.
وهذه الشبهة أيضاً مردودة؛ لأن الدستور في جميع الدول الإسلامية ينص على: (أن الإسلام دين الدولة) [24]، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع.
كما تنص قوانين العقوبات الحالية على أن لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء [25].
وإذا كان الدستور يقضي باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً[*] للتشريع فإنه يترتب على ذلك أنه لا يجوز لتشريع وضعي لاحق لصدور الدستور، أو حتى كان سابقاً عليه أن يخالف حكماً قطعياً من أحكام الشريعة الإسلامية وإلا كان التشريع مشوباً بعيب مخالفة الدستور.
والكلام السابق هو كلام رجال القانون، حيث بينوا أن أي حكم أو تشريع وضعي لاحق لصدور الدستور يعتبر مخالفاً للنصوص الدستورية الأعلى منه قوة وهو ما يطلق عليه عيب مخالفة الدستور [26].
موقف الشريعة الإسلامية من الردة: إن الردة تعتبر من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة الإسلامية؛ والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها؛ وقد شرع الإسلام القتل لجرائم أخف ضرراً؛ حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر؛ لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن الجماعة، فلا يعقل أن تكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، أخف ضرراً مما سبق؛ لأنه يترتب على الردة انهيار أركان المجتمع بمجمله دون ذلك.
والحق أن المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه الشروط وانتفت الموانع فإنه يجب على الدولة الإسلامية قتله إذا لم يتب لما ثبت في ذلك من السنة وإجماع أهل العلم [27].
والجواب: أولاً: أن هناك من رجال القانون العام العرب [15] من يرى أن للقواعد التي تتضمنها إعلانات الحقوق قيمة قانونية تعادل القيمة القانونية للنصوص الدستورية؛ ومن ثم فإن قوتها تعلو القوانين العادية وتكون واجبة الاحترام من السلطة التشريعية.
ثانياً: أن الدول الإسلامية وللأسف الشديد مع ضعفها سياسياً تحسب لهذه القضايا ألف حساب؛ حيث أنها تراعي الديمقراطية الغربية والنمط الغربي، وتخاف من الضغوط الغربية عليها؛ ولذلك نسمع ونشاهد أنه عندما يحكم على أحد المجرمين بالإعدام في البلدان الإسلامية فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وقد يباد شعب من المسلمين بأكمله ولا يتحرك هذا الضمير الغربي المدافع عن حقوق الإنسان؛ والواقع المعاصر أكبر شاهد على ما نقول!
ثالثاً: تختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية في أنها لا تعاقب على تغيير الدين بالذات ، ولكنها تأخذ بنظرية الشريعة وتطبقها على من يخرج على النظام الذي تقوم عليه الجماعة؛ فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية أو الفاشية، والدولة الفاشية تعاقب من يخرج على الفاشية وينادى بالشيوعية أو الديمقراطية، والدول الديمقراطية تحارب الشيوعية والفاشية وتعتبرها جريمة؛ فالخروج على المذهب الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي في دائرة القانون يقابل الخروج على الدين الإسلامي الذي يقوم عليه نظام الجماعة في الشريعة الإسلامية.
والخلاف بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة خلاف في تطبيق المبدأ وليس خلافاً على ذات المبدأ؛ فالشريعة الإسلامية تجعل الإسلام أساس النظام الاجتماعي، فكان من الطبيعي أن تعاقب على الردة لتحمي النظام الاجتماعي.
والقوانين الوضعية لا تجعل الدين أساساً للنظام الاجتماعي، وإنما تجعل أساسه أحد المذاهب الاجتماعية.
فكان من الطبيعي أن لا تحرم تغيير الدين وأن تهتم بتحريم كل مذهب اجتماعي مخالف للمذهب الذي أسس عليه نظام الجماعة [16].
ومما سبق يتبين لنا: أن القوانين الوضعية أغفلت النص على عقوبة المرتد، ولم يكن هذا الموضوع ليشغل بال واضعي القانون؛ وذلك لأن رجال القانون يعتبرون حد الردة وحشية وهمجية ولا يتناسب مع القرن العشرين الذي نعيش فيه! وإن تعجب فعجبٌ أنّ رجال القانون قد وضعوا عقوبة شديدة جداً قد تصل إلى حد الإعدام لما يسمونه بالخيانة العظمى على ما سيأتي تفصيله وهي تتمثل في إفشاء أسرار الدولة الخارجية والداخلية، أو التعرض لشخص رئيس الدولة، ومن خلال النصوص التي ذكروها يتضح جلياً أن خيانة الدين والردة عنه مسألة فيها نظر؛ أما خيانة الوطن فهي مسألة ذات خطر؛ ولعلِّي عزيزي القارئ أبين لك بعض النصوص القانونية التي توضح ذلك.
تعريف الخيانة العظمى: يطلق رجال القانون اصطلاح الخيانة على عدد من الاعتداءات الخطيرة الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وهي جميعها جنائية الوصف، وتنم عن فصم روابط الولاء الذي يشعر به المواطن نحو وطنه وأمته ودولته، وعن استهدافه في خدمة الدولة الأجنبية وتعهده مصالحها على حساب مصلحة دولته التي ينتمي إليها [17].
إذن فيعتبر خيانة عظمى: كل جريمة تمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجي أو الداخلي أو نظام الحكم الجمهوري.
عقوبة الخيانة العظمى: يكون معاقباً عليها في القوانين بعقوبات الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت [18].
مع العلم أن مخالفة الأحكام الأساسية التي يقوم عليها الدستور لا تنطوي تحت مدلول (الخيانة العظمى) وإنما جعل المشرع الوضعي هذه المخالفة (مخالفة الخيانة العظمى) جريمة مستقلة وعاقب عليها بعقوبة خاصة [19].
وكما تلاحظ فإن المشرِّع الوضعي أورد نصاً خاصاً ومستقلاً لجريمة الخيانة العظمى لخطورة هذه المسألة في نظره [20] مع أنه لم يورد نصاً خاصاً أو عاماً عن أحكام الردة؛ لأن هذه مسألة تدخل في نطاق الحرية العقدية والدينية.
فإلى الله المشتكى من هوان الدين على أبنائه.
وأذكر من باب الفائدة أن بعض القوانين الوضعية تفرق بين الخيانة العظمى وخيانة الوطن.
أما الأولى: فتشمل أكثر الجرائم المخلة بأمن الدولة الداخلي كالجنايات الواقعة على الدستور وغيرها.
وأما الثانية: أي خيانة الوطن فتقع على أمن الدولة الخارجي، وهي إما أن تكون خيانة عسكرية وتتناول جميع أنواع الخدمات التي يقدمها الفاعل إلى العدو في خلال الحرب، كما تتناول شتى ألوان الدسائس التي يستعملها لدن دولة أجنبية لدفعها إلى مباشرة الاعتداء على الوطن أو لتوفير الوسائل اللازمة لذلك.
وإما أن تكون خيانة سياسية أو دبلوماسية وتتناول جميع الأفعال التي تؤول إلى إفشاء أسرار الدولة أو الإضرار بمركزها السياسي.
وقد تقع أفعال الخيانة السياسية زمن السلم وزمن الحرب على السواء.
ويُجمع شراح الأنظمة، في هذه الحال، على صعوبة التفريق بين أفعال هذه الخيانة وأفعال التجسس [21].
وفي نهاية المطاف وقبل أن أبين موقف الشريعة الإسلامية من هذا الموضوع الخطير أرد على شبهتين أساسيتين هما : أ- أن عقوبة المرتد تَدَخّل في حرية العقيدة ومُصَادَرَةٌ لها، وإكراه على تبديل الدين، وإجبار الإنسان على اعتناق ما لا يريده ولا يرغب فيه.
وهذه الشبهة مردودة؛ لأنها تنطلق من الجهل بطبيعة هذه العقوبة، والجهل بمعنى الردة، ومعنى الإكراه على اعتناق العقيدة.
وبيان ذلك: أن الردة كما هو معروف رجوع عن الإسلام، والمرتد هو الراجع عن الإسلام.
فنحن إذن إزاء مسلم ارتكب جريمة معينة هي الردة، ولسنا أمام يهودي أو نصراني نريد أن نكرهه على تبديل دينه وحمله على اعتناق الإسلام.
ومبدأ أن لا إكراه في الدين مبدأ مقرر في الشريعة الإسلامية بنص القرآن ولا يجوز المساس به، بدليل واضح بسيط أن الإسلام شَرَعَ الجزية وعقد الذمة؛ وهذا يعني إبقاء غير المسلم على دينه وتركه وما يدين به.
فلو كان الإكراه على تبديل الدين واعتناق الإسلام بالجبر والإكراه مشروعاً لما شَرَعَ الإسلام عقد الذمة.
ولكن قد يقال: فلماذا إذن نعاقب المرتد؟ ألا يعني هذا إكراهه على الاستمرار على دين الإسلام وقد أصبح لا يرضاه؟! والجواب: أن المسلم بإسلامه التزم أحكام الإسلام وعقيدته، والإخلال بالالتزام لا يجوز، ويعاقب المخل بالتزامه بالعقوبة المناسبة، فعقوبة المرتد إذن وجبت لإخلال المسلم بالتزامه.
وبالإضافة إلى هذا الإخلال فإن المرتد بردته يرتكب جملة جرائم أخرى، وهذه الجرائم نتيجة حتمية لردته، وبيان هذه المسألة: أن المرتد لا بد أن يعلن ردته بشكل من أشكال الإعلان؛ لأنه لو كتمها ولم يعلنها لما عرفنا به ولبقي من المنافقين، فإعلانه للردة جريمة أخرى؛ لأن فيها استخفافاً بعقيدة الأمة ونظامها الذي ارتكز على الإسلام، كما أن في ردته تشجيعاً للمنافقين لمتابعته في ردته وإظهار نفاقهم، وتشكيكاً لضعاف العقيدة بعقيدتهم، وهذا كله يؤدي إلى اضطراب في المجتمع واهتزاز في نظامه القائم على الإسلام واستخفاف به؛ وهذه أمور جسيمة يجب منعها عن المجتمع الإسلامي بمعاقبة المرتد.
وجعلت عقوبة المرتد القتل؛ لأن جريمته خطيرة؛ ولأن إخلاله بالتزامه إخلال خطير جداً، ويجب أن لا نستغرب ذلك؛ فرب إخلال بالالتزام يترتب عليه قتل المخل مثلما تقدم في عقوبة الخيانة العظمى بهذا، كما لو تعاقد شخص مع الدولة لتزويد الجيش بالأرزاق، فإذا تعمد هذا المتعاقد عدم التزويد بالأرزاق، والجيش في حاجة إليها، كما لو كان في حالة حرب، مع قدرة المتعاقد على الإيفاء بالتزامه؛ فإن عقوبته قد تصل إلى الإعدام [22].
وأخيراً: فإن الشريعة الإسلامية، مع خطورة جرم المرتد أوجبت إمهاله ثلاثة أيام فإذا رجع عن ردته سقط عنه العقاب، فهل بعد هذا الذي قلناه تبقى لأحد حجة للقول بأن في عقوبة المرتد تدخلاً في حرية العقيدة واكراهاً على تبديل واعتناق الإسلام؟!!
ب- أن في عقوبة المرتد مخالفة للنص الدستوري الذي ينص على أن: (حرية الاعتقاد مطلقة) [23]
.
وهذه الشبهة أيضاً مردودة؛ لأن الدستور في جميع الدول الإسلامية ينص على: (أن الإسلام دين الدولة) [24]، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع.
كما تنص قوانين العقوبات الحالية على أن لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة في الشريعة الغراء [25].
وإذا كان الدستور يقضي باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً[*] للتشريع فإنه يترتب على ذلك أنه لا يجوز لتشريع وضعي لاحق لصدور الدستور، أو حتى كان سابقاً عليه أن يخالف حكماً قطعياً من أحكام الشريعة الإسلامية وإلا كان التشريع مشوباً بعيب مخالفة الدستور.
والكلام السابق هو كلام رجال القانون، حيث بينوا أن أي حكم أو تشريع وضعي لاحق لصدور الدستور يعتبر مخالفاً للنصوص الدستورية الأعلى منه قوة وهو ما يطلق عليه عيب مخالفة الدستور [26].
موقف الشريعة الإسلامية من الردة: إن الردة تعتبر من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة الإسلامية؛ والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها؛ وقد شرع الإسلام القتل لجرائم أخف ضرراً؛ حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر؛ لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن الجماعة، فلا يعقل أن تكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، أخف ضرراً مما سبق؛ لأنه يترتب على الردة انهيار أركان المجتمع بمجمله دون ذلك.
والحق أن المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه الشروط وانتفت الموانع فإنه يجب على الدولة الإسلامية قتله إذا لم يتب لما ثبت في ذلك من السنة وإجماع أهل العلم [27].