سر رهيب يكمن وراء إلحاح الصهيونية العالمية بشكل دائم على إبقاء الوعي العام
لليهود في حالة تذكر دائم ، فوضع بين المناهج الدراسية الإسرائيلية منهج يعنى
بالطائفة اليهودية التي أبيدت ، كما خصص يوم حداد في 27 إبريل من كل عام ، وفي
العرض التالي لكتاب صناعة الهولوكوست الصادر عن دار الآداب ببيروت عام 2001 قد
تتكشف خيوط نسيج هذا السر .
اتخذ اليهود من قضية الهولوكوست حائط مبكى آخر، وجعلوا منها سبيلا للوصول إلى
مصالحهم . فما هي حقيقة هذه القضية في الفكر الغربي من جهة ؟ ولدى اليهود من جهة
أخرى ؟ وكيف استطاعوا تحويلها إلى سلاح أيديولوجي؟
بموضوعية يتناول الدكتور نورمان فنكلستين موضوع صناعة الهولوكوست معتبرا أن هذه
الإبادة النازية استغلت لتبرير السياسات الإجرامية الإسرائيلية وتبرير الدعم
الولايات المتحدة لهذه السياسات، ونهضت هذه الحملة كسياسة ابتزازية جنت أموالا
خالية من أوربا باسم " ضحايا الهولوكوست المحرومين " .
لقد بقيت قضية الهولوكوست حتى وقت قريب بعيدة عن التناول إلا من حفنة ضئيلة من
الأقلام ، ولم يعرها الأمريكيون اهتماما كبيراً كما أن اليهود أنفسهم كبتوها لأنها
صدمة كبيرة بالنسبة إليهم ، كما أن السياسات الافتعالية التي انتهجها اليهود
الأمريكيون، والمناخ السياسي الذي يعيشون فيه، كان سبباً آخر في صمتهم .. ويضاف إلى
ذلك تحالف ألمانيا الغربية مع أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية في 1949م كسبب في
صمت أو نسيان الأمريكان اليهود قضية الهولوكوست؛ لأنهم رأوا أنه يحتمل من جراء
الخوض فيها أن تزداد تعقيدًا.
تضافرت مع هذه الأسباب أسباب أخرى كمعارضة اليهود للتحالف السوفييتي الألماني في
زمن الحرب الباردة، ولتقويض فكرة التحالف أخذوا يضربون على وتر الهولوكوست، كما
ذهبت بعض المنظمات الأمريكية الرئيسية إلى شجب الغزو السوفييتي لهنغاريا ، باعتباره
المحطة الأولى على طريق إبادة روسية لليهود .
وإذا كانت المنظمات اليهودية قد قللت من شأن الهولوكوست في الأعوام التي تلت الحرب
العالمية الثانية ، تماشيا مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة، الإ أن
القادة الأمريكيين اليهود صرحوا بخشيتهم من انضمام متوقع قبل قيادة إسرائيل
اليسارية ذات الأصول الأوربية الشرقية إلى المعسكر السوفييتي .
مقاييس الذاكرة الهولوكوستية
ومع حلول أزمة السويس عام 1956م بلغت الصدامات الإسرائيلية المتقطعة مع الولايات
المتحدة ـ على أمور السياسة ـ ذروتها، إذ كانت إسرائيل متواطئة مع بريطانيا وفرنسا
على مهاجمة الزعيم القومي جمال عبد الناصر .
ومما زاد في جذب انتباه أمريكا إلى قدرة إسرائيل والنظر إليها كرصيد إقليمي ذلك
الانتصار الخاطف الذي حققته إسرائيل واحتلالها لجزيرة سيناء .
وخلال هذه الأزمة ، وبالرغم من طلب " أيزنهاور" من إسرائيل الانسحاب الكامل من
سيناء ، فإن القادة الأمريكيين اليهود دعموا الجهود الإسرائيلية وسخروا جهودهم
لانتزاع تنازلات أمريكية .
وما كان خضوع إسرائيل لقوة الولايات المتحدة بالنسبة إلى النخب اليهودية الأمريكية
مقصودًا به الكسب ولكنه جاء رمية من غير رام ، أما اندماج اليهود فقد نشأ بناء على
مقولة إن الاندماج حلم خليجي واليهود سيعتبرون على الدوام أناسا مرشحين لأن يكونوا
غرباء عديمي الولاء للدولة التي يسكنون فيها، ولحل هذا المأزق سعى الصهاينة إلى
تأسيس وطن قومي لليهود، ولكن الحقيقة أن تأسيس إسرائيل فاقم المشكلة بالنسبة إلى
يهود الشتات.
ترسيخ التحالف الأمريكي الإسرائيلي
وبعد حرب يونيو 1967 اكتشفت النخب اليهودية الأمريكية إسرائيل التي توجه بنادقها في
الاتجاه الذي يريدون، وارتقت النخب اليهودية لتقف في صدارة الممثلين في مسرحية
الحرب البادرة، وهكذا تحولت إسرائيل إلى رصيد استراتيجي لليهود الأمريكيين
وللولايات المتحدة أيضا، وهذا ما جعل المنظمات الأمريكية اليهودية التقليدية تكرس
وقتها بعد حرب يونيو 1967م لترسيخ التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي، وزادت التغطية
الصحفية لأخبار إسرائيل في (نيويورك تايمز)، ولكن حين شعر البعض ـ ممن أطلقوا عليهم
فيما بعد بالمستعربين ـ بأن ميل الولايات المتحدة كل الميل مع إسرائيل وتجاهل النخب
العربية يضعف المصالح القومية للولايات المتحدة، كان البعض الآخر ينظر إلى حقيقة ما
تفعله إسرائيل من احتلال لأجزاء من الأقطار العربية المجاورة ، يلحق الضرر أيضا
بإسرائيل ومصالحها ، وأن أنصار إسرائيل في سياستها الاستعمارية هذه هم أنصار
انحطاطها الخلقي ودمارها النهائي ـ على حد تعبير "نعوم تشومسكي"ـ ولكي يحمي اليهود
رصيدهم الإستراتيجي أخذوا يتذكرون الهولوكوست وذلك في توقيت يعطي هذا التذكير تفسير
آخر . لقد كان ذلك كله حين قامت حرب يونيو 1967 وشعرت إسرائيل بالخطر المحيق بها
وبات خوفها من هولوكوست ثانية يؤرقها، وأعلن ديفيد بن جوريون أن ( 700) ألف يهودي
يواجهون (17) مليون عربي توقعت الولايات المتحدة انتحارا يهودياً جماعياً
وهولوكوستاً كاملاً في فلسطين، وتوقع جهاز الاستخبارات الأمريكية ( C.I.A) هزيمة
يهودية في حال نشوب الحرب، ولكن إسرائيل في 1967 اكتسحت جيرانها العرب خلال أيام
معدودة، وبعد أن قدمت إسرائيل عرضها الباهر لسيطرتها العسكرية التفتت إلى صناعة
الهولوكست التي ازدهرت .
وحين نشبت معارك 1973 بين العرب وإسرائيل تفاقمت مخاوف اليهود الأمريكيين من تعرض
إسرائيل للأخطار ، ولذلك عادت الذاكرة الهولوكوستية للحياة .
وفي حقيقة الأمر أن بروز صناعة الهولوكوست إلى وسط الأحداث ليس ناجما عن نكسات
إسرائيل في حرب 1973 وما عانته إسرائيل بعد الحرب من العزلة والنبذ، ولكن العرض
العسكري المصري الباهر أقنع صناع القرار من النخب الأمريكية والإسرائيلية بأن تسوية
دبلوماسية مع مصر ـ التي تتضمن عودة الأراضي المصرية التي سبق لإسرائيل الاستيلاء
عليها في يونيو 1967 ـ صار محتماً .
الهولوكوست والمصلحة اليهودية
وإذا عدنا مع الكاتب إلى مبررات تذكر إسرائيل للهولوكوست يبدو لنا أن النخب
اليهودية الأمريكية لم تتذكر الهولوكوست النازية قبل يونيو 1967 إلا حين كانت نافعة
لها سياسيا، فاستفادت إسرائيل من الهولوكوست النازية خلال محاكمة Aikhman ايخمان،
وحين أثبتت الهولوكوست فائدتها عمدت الحركة اليهودية الأمريكية المنظمة إلى
استغلالها كصناعة تدفع إسرائيل من خلالها النقد عن كيانها .
وباتت الهولوكوست الوتر الذي يعزفون عليه، وبقوا كذلك حتى عام 1967 حين لم يعد القس
جيسي جاكسون قادراً على احتمال تلك المعزوفة فقال: "إنه سئم وتعب من الاستماع إلى
حديث الناس عن الهولوكوست ". فهاجمته النخب الأمريكية اليهودية متذرعين بمناصرته
للموقف الفلسطيني، وليس بسبب ملاحظاته المعادية للسامية، وبذلك تحولت صناعة
الهولوكوست إلى سلاح أديديولوجي فعال.
وهكذا فإن تفعيل صناعة الهولوكوست لم ينجم من ضعف إسرائيل أو عزلتها، ولا الخوف من
هولوكوست ثانية بعد حرب 1967، فمع حلول السبعينيات خفت وطأة معاداة السامية في
الحياة الأمريكية . ومع ذلك قرع اليهود ناقوس الخطر محذرين من نزعة عداء للسامية
جديدة، وتحولت حالة التخوف هذه إلى هيستريا مختلفة خدمت أهدافا متعددة للحركة
اليهودية الأمريكية المنظمة .
والطريف أنه مع تحرك النخب اليهودية بعدوانية لحماية مصالحها الطبقية والآنية دمغت
هذه النخب كل معرضة لسياساتها المحافظة الجديدة بتهمة العداء للسامية ، وصارت
الحالة إلى أنه كما تذكرت اليهودية المنظمة الهولوكوست حين بلغت القوة الإسرائيلية
الذروة فإنها تذكرت الهولوكوست حين بلغت القوة اليهودية الذروة ، وكما ألزم
الإسرائيليون الذين دججتهم الولايات المتحدة بالسلاح ضد الفلسطينيين الجامحين حدهم
.
فالهولوكوست على حد تعبير الكاتب الإسرائيلي "بواس ايفردن" عملية تلقين دعائية
رسمية تمخضت عن شعارات وتصورات زائفة عن العالم، وليس هدفها منهم الماضي على
الإطلاق بل التلاعب الحاضر ، ويرى الكاتب " جايكوب نوزثرة " أن أول وأهم ادعاء
انبثق من حرب 1967 وأصبح شعار لليهودية الأمريكية هو : أن الهولوكوست فريدة وليس
لها نظير في التاريخ الإنساني .
فيما سخر المؤرخ " دايفيد ستازد" في إحدى مقالاته من " صناعة صغيرة من كتبه سير
قديسي الهولوكوست الذين يؤكدون فرادة التجربة اليهودية بكلل ما ملكت أيديهم من
طاقات اللاهوتيين المتعصبين وبراعتهم؛ وذلك لأن المذهبية الجامدة القائلة الفرادة
منافية للمعقول بعد كل حساب" .
ادعاء هولوكوست
ويؤكد كتاب صناعة الهولوكوست أن الخدعة الكبرى الأولى التي ظهرت في أدبيات
الهولوكوست كتاب العصفور المدهون لمؤلفه "جيرزي كوسنيسكي " والذي لفق الأحداث
المرضية التي رواها، وسار على طريقته "بنجامين مرسكي" في كتابه "شظايا" ، وفيه صور
الحياة بعد الهولوكوست لا أثناءها وتبعه كتاب "جلادو هتلر المتطوعون" " لدانيال
جوناه غولدهاغن " الذي امتدحته النيويورك تايمز وترجتمه إلى لغات كثيرة، وهو لا
يعدو كونه تجميعاً ملخصاً للعنف السادي، وهو يخلو من أي قيمة أكاديمية ، كما كشفت
إحدى المجلات بتحقيق ـ مركّز ـ خداع " كوسنيسكي " وعصفوره المدهون .
وبالرغم من براءة العرب ونظافة الرداء العربي من أي أوشاب هولوكوستية، فإن موسوعة
الهولوكوست التي حررها إسرائيل غوتمان حملت مفتي القدس الحاج أمين الحسيني درواً
رئيسياً، واستمات الإسرائيليون مبررو الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 في تلطيخ
صورة العرب وقرنها بالنازية .
والعجيب أن سياسة متحف الهولوكوست تنهج إلى تحديد من يجب إحياء ذكراهم ، فهل كان
اليهود هم الضحايا الوحيدين للهولوكوست رغم أن نصف مليون غجري تقريبا قضوا نحبهم في
المحارق النازية؟
ولكن فيما يبدو أنه تمكن دوافع متعددة وراء تهيش المتحف لإبادة الغجر ،فحياة
اليهودي حسب اعتقادهم أهم من حياة الغجري .
وفي أعقاب الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان عام 1966ـ والتي بلغت ذروتها في مذبحة
قانا ـ كان للصحفي الإسرائيلي آرى شافيت رأي يقول: إن متحف الهولوكوست يجعل إسرائيل
تتمتع بالحصانة رغم تصرفاتها.
ويستمر الابتزاز الإسرائيلي في التعويضات المالية التي منحتها ألمانيا عام 1952 من
جهة، ومن جهة أخرى أنجزت الحكومة الألمانية تسوية تدفع بموجبها 10مليون دولرا سنويا
لاثنتي عشرة سنة، تدفعها لمؤتمر المطالب اليهودية من ألمانيا لتصل إلى الضحايا
اليهود، أو أولئك الناجين الذين سبق وعوضتهم ألمانيا تعويضات قليلة ، ولكن مؤتمر
المطالب اليهودية ألغى الاتفاق وسعى لوضع يده على الأملاك اليهودية التي نزعت عنها
ملكية حكومة ألمانيا الشرقية وتقدر بمئات الملايين من الدولارات.
يوضح الكتاب الأساليب الأخرى للابتزاز، والطريقة المخزية التي وزعت على أساسها
التعويضات .
وتظلل صناعة الهولوكوست محصنة بقوة في الحياة الأمريكية، كما كرس لهذه الصناعة من
مؤسسات وخبراء يحمون ذكراها .
وعجيب أن أمريكا تستدعي ذكريات أحدث الهولوكوست ، ولكن كم وكم هولوكوستا بأساليب
متعددة في العالم المعاصر تعزف الولايات المتحدة عن ذكرها ؟!!.
إن كتاب صناعة الهولوكوست الذي استعرضنا أهم ما ورد فيه من أفكار يبقى شهادة مميزة
ومعلومات وافرة تكشف المزاعم والادعاءات المفتراة والاستغلال الغربي المادي
المتفاقم .
لليهود في حالة تذكر دائم ، فوضع بين المناهج الدراسية الإسرائيلية منهج يعنى
بالطائفة اليهودية التي أبيدت ، كما خصص يوم حداد في 27 إبريل من كل عام ، وفي
العرض التالي لكتاب صناعة الهولوكوست الصادر عن دار الآداب ببيروت عام 2001 قد
تتكشف خيوط نسيج هذا السر .
اتخذ اليهود من قضية الهولوكوست حائط مبكى آخر، وجعلوا منها سبيلا للوصول إلى
مصالحهم . فما هي حقيقة هذه القضية في الفكر الغربي من جهة ؟ ولدى اليهود من جهة
أخرى ؟ وكيف استطاعوا تحويلها إلى سلاح أيديولوجي؟
بموضوعية يتناول الدكتور نورمان فنكلستين موضوع صناعة الهولوكوست معتبرا أن هذه
الإبادة النازية استغلت لتبرير السياسات الإجرامية الإسرائيلية وتبرير الدعم
الولايات المتحدة لهذه السياسات، ونهضت هذه الحملة كسياسة ابتزازية جنت أموالا
خالية من أوربا باسم " ضحايا الهولوكوست المحرومين " .
لقد بقيت قضية الهولوكوست حتى وقت قريب بعيدة عن التناول إلا من حفنة ضئيلة من
الأقلام ، ولم يعرها الأمريكيون اهتماما كبيراً كما أن اليهود أنفسهم كبتوها لأنها
صدمة كبيرة بالنسبة إليهم ، كما أن السياسات الافتعالية التي انتهجها اليهود
الأمريكيون، والمناخ السياسي الذي يعيشون فيه، كان سبباً آخر في صمتهم .. ويضاف إلى
ذلك تحالف ألمانيا الغربية مع أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية في 1949م كسبب في
صمت أو نسيان الأمريكان اليهود قضية الهولوكوست؛ لأنهم رأوا أنه يحتمل من جراء
الخوض فيها أن تزداد تعقيدًا.
تضافرت مع هذه الأسباب أسباب أخرى كمعارضة اليهود للتحالف السوفييتي الألماني في
زمن الحرب الباردة، ولتقويض فكرة التحالف أخذوا يضربون على وتر الهولوكوست، كما
ذهبت بعض المنظمات الأمريكية الرئيسية إلى شجب الغزو السوفييتي لهنغاريا ، باعتباره
المحطة الأولى على طريق إبادة روسية لليهود .
وإذا كانت المنظمات اليهودية قد قللت من شأن الهولوكوست في الأعوام التي تلت الحرب
العالمية الثانية ، تماشيا مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة، الإ أن
القادة الأمريكيين اليهود صرحوا بخشيتهم من انضمام متوقع قبل قيادة إسرائيل
اليسارية ذات الأصول الأوربية الشرقية إلى المعسكر السوفييتي .
مقاييس الذاكرة الهولوكوستية
ومع حلول أزمة السويس عام 1956م بلغت الصدامات الإسرائيلية المتقطعة مع الولايات
المتحدة ـ على أمور السياسة ـ ذروتها، إذ كانت إسرائيل متواطئة مع بريطانيا وفرنسا
على مهاجمة الزعيم القومي جمال عبد الناصر .
ومما زاد في جذب انتباه أمريكا إلى قدرة إسرائيل والنظر إليها كرصيد إقليمي ذلك
الانتصار الخاطف الذي حققته إسرائيل واحتلالها لجزيرة سيناء .
وخلال هذه الأزمة ، وبالرغم من طلب " أيزنهاور" من إسرائيل الانسحاب الكامل من
سيناء ، فإن القادة الأمريكيين اليهود دعموا الجهود الإسرائيلية وسخروا جهودهم
لانتزاع تنازلات أمريكية .
وما كان خضوع إسرائيل لقوة الولايات المتحدة بالنسبة إلى النخب اليهودية الأمريكية
مقصودًا به الكسب ولكنه جاء رمية من غير رام ، أما اندماج اليهود فقد نشأ بناء على
مقولة إن الاندماج حلم خليجي واليهود سيعتبرون على الدوام أناسا مرشحين لأن يكونوا
غرباء عديمي الولاء للدولة التي يسكنون فيها، ولحل هذا المأزق سعى الصهاينة إلى
تأسيس وطن قومي لليهود، ولكن الحقيقة أن تأسيس إسرائيل فاقم المشكلة بالنسبة إلى
يهود الشتات.
ترسيخ التحالف الأمريكي الإسرائيلي
وبعد حرب يونيو 1967 اكتشفت النخب اليهودية الأمريكية إسرائيل التي توجه بنادقها في
الاتجاه الذي يريدون، وارتقت النخب اليهودية لتقف في صدارة الممثلين في مسرحية
الحرب البادرة، وهكذا تحولت إسرائيل إلى رصيد استراتيجي لليهود الأمريكيين
وللولايات المتحدة أيضا، وهذا ما جعل المنظمات الأمريكية اليهودية التقليدية تكرس
وقتها بعد حرب يونيو 1967م لترسيخ التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي، وزادت التغطية
الصحفية لأخبار إسرائيل في (نيويورك تايمز)، ولكن حين شعر البعض ـ ممن أطلقوا عليهم
فيما بعد بالمستعربين ـ بأن ميل الولايات المتحدة كل الميل مع إسرائيل وتجاهل النخب
العربية يضعف المصالح القومية للولايات المتحدة، كان البعض الآخر ينظر إلى حقيقة ما
تفعله إسرائيل من احتلال لأجزاء من الأقطار العربية المجاورة ، يلحق الضرر أيضا
بإسرائيل ومصالحها ، وأن أنصار إسرائيل في سياستها الاستعمارية هذه هم أنصار
انحطاطها الخلقي ودمارها النهائي ـ على حد تعبير "نعوم تشومسكي"ـ ولكي يحمي اليهود
رصيدهم الإستراتيجي أخذوا يتذكرون الهولوكوست وذلك في توقيت يعطي هذا التذكير تفسير
آخر . لقد كان ذلك كله حين قامت حرب يونيو 1967 وشعرت إسرائيل بالخطر المحيق بها
وبات خوفها من هولوكوست ثانية يؤرقها، وأعلن ديفيد بن جوريون أن ( 700) ألف يهودي
يواجهون (17) مليون عربي توقعت الولايات المتحدة انتحارا يهودياً جماعياً
وهولوكوستاً كاملاً في فلسطين، وتوقع جهاز الاستخبارات الأمريكية ( C.I.A) هزيمة
يهودية في حال نشوب الحرب، ولكن إسرائيل في 1967 اكتسحت جيرانها العرب خلال أيام
معدودة، وبعد أن قدمت إسرائيل عرضها الباهر لسيطرتها العسكرية التفتت إلى صناعة
الهولوكست التي ازدهرت .
وحين نشبت معارك 1973 بين العرب وإسرائيل تفاقمت مخاوف اليهود الأمريكيين من تعرض
إسرائيل للأخطار ، ولذلك عادت الذاكرة الهولوكوستية للحياة .
وفي حقيقة الأمر أن بروز صناعة الهولوكوست إلى وسط الأحداث ليس ناجما عن نكسات
إسرائيل في حرب 1973 وما عانته إسرائيل بعد الحرب من العزلة والنبذ، ولكن العرض
العسكري المصري الباهر أقنع صناع القرار من النخب الأمريكية والإسرائيلية بأن تسوية
دبلوماسية مع مصر ـ التي تتضمن عودة الأراضي المصرية التي سبق لإسرائيل الاستيلاء
عليها في يونيو 1967 ـ صار محتماً .
الهولوكوست والمصلحة اليهودية
وإذا عدنا مع الكاتب إلى مبررات تذكر إسرائيل للهولوكوست يبدو لنا أن النخب
اليهودية الأمريكية لم تتذكر الهولوكوست النازية قبل يونيو 1967 إلا حين كانت نافعة
لها سياسيا، فاستفادت إسرائيل من الهولوكوست النازية خلال محاكمة Aikhman ايخمان،
وحين أثبتت الهولوكوست فائدتها عمدت الحركة اليهودية الأمريكية المنظمة إلى
استغلالها كصناعة تدفع إسرائيل من خلالها النقد عن كيانها .
وباتت الهولوكوست الوتر الذي يعزفون عليه، وبقوا كذلك حتى عام 1967 حين لم يعد القس
جيسي جاكسون قادراً على احتمال تلك المعزوفة فقال: "إنه سئم وتعب من الاستماع إلى
حديث الناس عن الهولوكوست ". فهاجمته النخب الأمريكية اليهودية متذرعين بمناصرته
للموقف الفلسطيني، وليس بسبب ملاحظاته المعادية للسامية، وبذلك تحولت صناعة
الهولوكوست إلى سلاح أديديولوجي فعال.
وهكذا فإن تفعيل صناعة الهولوكوست لم ينجم من ضعف إسرائيل أو عزلتها، ولا الخوف من
هولوكوست ثانية بعد حرب 1967، فمع حلول السبعينيات خفت وطأة معاداة السامية في
الحياة الأمريكية . ومع ذلك قرع اليهود ناقوس الخطر محذرين من نزعة عداء للسامية
جديدة، وتحولت حالة التخوف هذه إلى هيستريا مختلفة خدمت أهدافا متعددة للحركة
اليهودية الأمريكية المنظمة .
والطريف أنه مع تحرك النخب اليهودية بعدوانية لحماية مصالحها الطبقية والآنية دمغت
هذه النخب كل معرضة لسياساتها المحافظة الجديدة بتهمة العداء للسامية ، وصارت
الحالة إلى أنه كما تذكرت اليهودية المنظمة الهولوكوست حين بلغت القوة الإسرائيلية
الذروة فإنها تذكرت الهولوكوست حين بلغت القوة اليهودية الذروة ، وكما ألزم
الإسرائيليون الذين دججتهم الولايات المتحدة بالسلاح ضد الفلسطينيين الجامحين حدهم
.
فالهولوكوست على حد تعبير الكاتب الإسرائيلي "بواس ايفردن" عملية تلقين دعائية
رسمية تمخضت عن شعارات وتصورات زائفة عن العالم، وليس هدفها منهم الماضي على
الإطلاق بل التلاعب الحاضر ، ويرى الكاتب " جايكوب نوزثرة " أن أول وأهم ادعاء
انبثق من حرب 1967 وأصبح شعار لليهودية الأمريكية هو : أن الهولوكوست فريدة وليس
لها نظير في التاريخ الإنساني .
فيما سخر المؤرخ " دايفيد ستازد" في إحدى مقالاته من " صناعة صغيرة من كتبه سير
قديسي الهولوكوست الذين يؤكدون فرادة التجربة اليهودية بكلل ما ملكت أيديهم من
طاقات اللاهوتيين المتعصبين وبراعتهم؛ وذلك لأن المذهبية الجامدة القائلة الفرادة
منافية للمعقول بعد كل حساب" .
ادعاء هولوكوست
ويؤكد كتاب صناعة الهولوكوست أن الخدعة الكبرى الأولى التي ظهرت في أدبيات
الهولوكوست كتاب العصفور المدهون لمؤلفه "جيرزي كوسنيسكي " والذي لفق الأحداث
المرضية التي رواها، وسار على طريقته "بنجامين مرسكي" في كتابه "شظايا" ، وفيه صور
الحياة بعد الهولوكوست لا أثناءها وتبعه كتاب "جلادو هتلر المتطوعون" " لدانيال
جوناه غولدهاغن " الذي امتدحته النيويورك تايمز وترجتمه إلى لغات كثيرة، وهو لا
يعدو كونه تجميعاً ملخصاً للعنف السادي، وهو يخلو من أي قيمة أكاديمية ، كما كشفت
إحدى المجلات بتحقيق ـ مركّز ـ خداع " كوسنيسكي " وعصفوره المدهون .
وبالرغم من براءة العرب ونظافة الرداء العربي من أي أوشاب هولوكوستية، فإن موسوعة
الهولوكوست التي حررها إسرائيل غوتمان حملت مفتي القدس الحاج أمين الحسيني درواً
رئيسياً، واستمات الإسرائيليون مبررو الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 في تلطيخ
صورة العرب وقرنها بالنازية .
والعجيب أن سياسة متحف الهولوكوست تنهج إلى تحديد من يجب إحياء ذكراهم ، فهل كان
اليهود هم الضحايا الوحيدين للهولوكوست رغم أن نصف مليون غجري تقريبا قضوا نحبهم في
المحارق النازية؟
ولكن فيما يبدو أنه تمكن دوافع متعددة وراء تهيش المتحف لإبادة الغجر ،فحياة
اليهودي حسب اعتقادهم أهم من حياة الغجري .
وفي أعقاب الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان عام 1966ـ والتي بلغت ذروتها في مذبحة
قانا ـ كان للصحفي الإسرائيلي آرى شافيت رأي يقول: إن متحف الهولوكوست يجعل إسرائيل
تتمتع بالحصانة رغم تصرفاتها.
ويستمر الابتزاز الإسرائيلي في التعويضات المالية التي منحتها ألمانيا عام 1952 من
جهة، ومن جهة أخرى أنجزت الحكومة الألمانية تسوية تدفع بموجبها 10مليون دولرا سنويا
لاثنتي عشرة سنة، تدفعها لمؤتمر المطالب اليهودية من ألمانيا لتصل إلى الضحايا
اليهود، أو أولئك الناجين الذين سبق وعوضتهم ألمانيا تعويضات قليلة ، ولكن مؤتمر
المطالب اليهودية ألغى الاتفاق وسعى لوضع يده على الأملاك اليهودية التي نزعت عنها
ملكية حكومة ألمانيا الشرقية وتقدر بمئات الملايين من الدولارات.
يوضح الكتاب الأساليب الأخرى للابتزاز، والطريقة المخزية التي وزعت على أساسها
التعويضات .
وتظلل صناعة الهولوكوست محصنة بقوة في الحياة الأمريكية، كما كرس لهذه الصناعة من
مؤسسات وخبراء يحمون ذكراها .
وعجيب أن أمريكا تستدعي ذكريات أحدث الهولوكوست ، ولكن كم وكم هولوكوستا بأساليب
متعددة في العالم المعاصر تعزف الولايات المتحدة عن ذكرها ؟!!.
إن كتاب صناعة الهولوكوست الذي استعرضنا أهم ما ورد فيه من أفكار يبقى شهادة مميزة
ومعلومات وافرة تكشف المزاعم والادعاءات المفتراة والاستغلال الغربي المادي
المتفاقم .